صورة جلجامش – أنكيدو
قراءة في جدلية شخصيتيهما بأعمال الفن العراقي القديم
الكاتب : حسين الحلو
ملخص
يتناول البحث قراءة تأويلية لصورة جلجامش وأنكيدو التي نقلتها الملحمة العراقية المعروفة (ملحمة جلجامش ) من خلال تعرّفها بأعمال الفن في العراق القديم وأبرزها ما استقرئ في طبعات الأختام الاسطوانية ، إذ احتلت – أي الملحمة – أهمية كبيرة وبارزة في أدب وتاريخ وفن الحضارة العراقية القديمة ؛ وحيث يجيء البحث في أهميته بتقصيه ما حملته صورة جلجامش وأنكيدو من تشكيل فني تناوبا فيه موقعيهما كبطلين عرّفت بهما الملحمة المذكورة بما حملته – من خلال بطليها – من قيم سامية أجابت عن معنى عميق وسام من قيم الإنسان في خلود عمله على الأرض ، وما لقياه في رحلتهما من مصاعب وأحداث جسدها المّثال العراقي القديم صورا مرئية ظهرت على طبعات الأختام بما تضمنته من تعدد الموضوعات على مسار الحدث ، وبدلالات تعبيرية قام البحث على استقرائها وأكدت صميمية تميزها بوجود فكر ومظهر من مظاهر الرقي في واحدة من ابرز النتاجات الفنية العراقية القديمة الممثلة بالأختام الاسطوانية ذات التشكيل الإبداعي المتفرد الذي يقف وراءه نمط من التفكير الجمالي قاد إلى انجاز موضوعاتها بتلك الدقة من التنفيذ وجماليات التشكيل الفني .
المؤلف : د.محمود عجمي جاسم الكلابي
ولأجل التحقق مما تضمنه البحث من إشكالية الصورة لبطلي الأسطورة / الملحمة على غير ما ذهب إليه الباحثون من تناولٍٍِِِ لها بمعطيات ثابتة حددوها هم، وبما شخصه الاثاريون فيها – أي الصورة – من موضع محدد انتهت إليه دراساتهم ، يجيء البحث كشفاً بقراءة جدلية شخصية بطلي الأسطورة / الملحمة مما هو عليه في عالم الواقع في التشكيل – (المرئي) ، وعالم الخيال في التصور – (اللامرئي) ، وما يعنيه ذلك من إشارة إلى معنى الشبه المشير إلى الشكل وما يأتي به ذلك من معنى لصورة الشيء المحسوسة أو المتوهمة ، مرتكزة في التأويل والتحقق من خلال بيانات نص الأسطورة في مواضع حددت ذلك والتي أجاب عنها البحث بهذه الجدة من القراءة .
المقدمة
بدايةً ، لابد من الإشارة إلى أن البحث الحالي سيثير جدلا بين من يناصر الرأي الذي ذهبت إليه كباحث بشيء من التمحيص لصورتي البطلين (جلجامش وأنكيدو ) في الملحمة التي تناولتهما وبقراءة تأويلية لما أكدته من خلال :
1-الواقع /الخيال (المرئي ) / (اللامرئي ) الذي تناولته الأسطورة /
الملحمة
2- الجنس في تأكيد هوية الشخصية من خلال النصوص المشيرة إلى ذلك .
3- الصورة المعبرة عن ذلك وبما لا يدع مجالا للشك في التأويل .
وبين معارض للرأي في اعتبار أن ما وضعه الباحثون هو النهائي والجازم بحسب قناعاتهم.
وبرأيي لو كان الأمر كذلك لما تطلب أن تكون هناك بحوث تدحض ما هو (مسلَّم به!) دون الخوض في كشف ما هو ابعد مما وضع وأسس له . ناهيك عن أن الأسطورة / الملحمة التي اختصت بمآثر جلجامش وصديقه أنكيدو تعد نصا مفتوحا لقراءات عديدة بلغت العشرات أو تزيد ومنها القراءة الحالية .
ولكونها ليست ملحمة فقط ، وإنما أسطورة جانَبَ الخيال (اللامرئي ) فصولا من أحداثها ، لذا عدت نصا مفتوحا يحتمل المزيد من البحوث حول ما جاءت به من أحداث وقيم ومثل ، وطريقة تشكيل ، وحيث تشكل قراءتي هذه لها وبما ذكرته في البداية أحكاما قامت عليها استنتاجات البحث .
وعليه ، يكون البحث الحالي قراءة أولى في جانب تناوب الشخصية لبطلي الأسطورة / الملحمة ولبعض نماذج منها ، عسى أن أكون قد وفقت لما ذهبت إليه من رأي واستنتاج جديد ، وحيث إن اختلاف الرأي لا يفسد في (الأمر )هنا قضية .. ذلك ما قاله الحكماء وهو بعض السعي بنظرية الشك واليقين ، تحققا من ذلك الأمر وإرساء لمسعى علمي في البحث .. ومن الله التوفيق ..
الفصل الأول
الإطار المنهجي للبحث
مشكلة البحث
دخولا في حيثيات الموضوع الذي يتناول أبرز شخصيتين عرفهما الأدب العراقي القديم ، في الملحمة التي تناولت أسطورة جلجامش ، البطل الذي تحدى الصعاب بحثا عن الخلود ، في الملحمة المعروفة ( ملحمة جلجامش ) حيث احتلت شخصيته أهمية كبيرة وبارزة في أدب وتاريخ الحضارة العراقية القديمة ، وحيث تعد ( الملحمة /الأسطورة ) هذه في عمقها السومري / الأكدي ، من بين أعظم ملاحم العالم القديم ، وأقدمها في تاريخ البشرية ، لما حمله نصها من معان عميقة وقيم سامية ، لا بكونها مجرد حكاية أو أسطورة ، وإنما كوثيقة عن الإنسانية منذ القدم ، في إجابتها عن معنى سام من قيم الإنسان في خلود عمله على الأرض .. والارتقاء بالبشر فوق مرتبة الحيوان بالركون إلى منطق العقل في التصرف وفي تقرير غائية العمل النافع اجتماعيا والذي هو مكمن السر في خلود البشر(1) .
وهذه الملحمة /الأسطورة المرتكزة في أحداثها على بطليها الأساسيين ( جلجامش وأنكيدو ) كقطبين تناوبا فعل الحدث عبر مسارها الطويل ، وما عرفته من صراع بين إرادتين تنازعتاها ، هما إرادة الشر وإرادة الخير اللتان صاحبتا أحداثها عبر العديد من الرموز التي تضمنتها ، خالصةً بشروع الإنسان في التفكّر إزاء الكون ومعاني الحياة وقيمها لتقوده تصوراته وأفكاره إلى ما تركتها فيه من انطباعات ، سالكا في تعبيره عن هذه الأمور سبلا مختلفة ، ومنها "النظر إلى الأشياء نظرة خيالية أو أسطورية (ميثولوجية ) فيعبر عن مظاهر الكون والحياة تعبيرا فنيا خلّفه على هيئة قطع فنية أو أدبية نسميها رسما أو نحتا أو قصة أسطورية أو ملحمة" (2) .
وإذا ما لاحظنا الأعمال الفنية التي خلفتها لنا الحضارة العراقية القديمة ، على الرغم من أنها أنجزت بتأثير ديني ، إلا أنها لم تخل من قيمة فنية جمالية حكمتها طبيعة تشكيلها ، بتعدد الموضوعات التي طرقتها بدلالات تعبيرية ، والتي يقوم البحث على استقرائها في واحدة من منجزاتها الفنية المتمثلة هنا بطبعات الأختام في تناول صورة (جلجامش ) منها في حدود هذا البحث بتسليط الضوء على شخصيته والشخصية المرادفة لها في التأثير المعرّفة بـ ( أنكيدو ) ، خله وصديقه في الأسطورة ، وحيث تعد صورتيهما فيها ، مع ما يكملها من موضوعات طبعت بهذا النتاج ، جزءا من نتاجات عراقية صميمة تميزت بوجود فكر ومظهر من مظاهر الرقي ، ونمط من التفكير الجمالي يقف وراءها .
ولأهمية صورتي بطلي الأسطورة في مجمل أحداثها ، والقول عند الباحثين بتشكيل صورة كل منها على وفق صياغة عَرّفت بهما وحددتها(3) دون تجاوز ذلك إلى منطق التناوب في تشكيل الشخصية الخاضعة إلى الفكر الأسطوري في التشكّل لا إلى الواقع ، فإن مشكلة البحث ، تؤشَّر من هذا الجانب ، انطلاقا من واقع الفارق في النظر إليها من وجهة نظر الباحث في التاريخ الحضاري ( الآثاري ) بالنظر إليها كعمل وصفي لا يخضع إلى التحليل والتمحيص، وبين مؤرخ الفن بالنظر إليها كأعمال فنية يخضع فيها الشكل إلى ما يحمله من مضمون وتأكيده من خلال ألواح نص الأسطورة التي سيُخضِع فيها الباحث شكل صورتي ( جلجامش و أنكيدو ) إلى دقة تفحّص صورتيهما ، بجانبها الحضاري / الفني وحيث شخص الآثاريون الصورة فيهما أو لكليهما بموضوع محدد دون الخوض في التأويل المشير إلى هويتيهما في كل عمل بدقة .
ومن خلال ما تضمنه نص الأسطورة ، في مواضع عدة ، من معان أشارت إلى صورتيهما التي يجد فيها الباحث تناولا في التشّكل الفني يضع أحدهما في صورة الآخر ، حكما بإخضاع ذلك إلى منطق الأسطورة – وهو ما يقوم عليه البحث الحالي، وما تحقق منه الباحث ، بما ستقرره استنتاجات البحث بدقة – إذ أن الأسطورة ترتقي بشخصياتها إلى أبعد مما عليها من هيئة في التشكيل/ البنية / المظهر .. فالواقع يجانب الخيال فيها ، مثلما يجانب الخيال أكثر أحداثها ؛ فيما الملحمة لها ارتباط بالواقع أكثر .. وعليه تغدو حكاية ( جلجامش ) بعبارة أدق ( أسطورة / ملحمة ) أو هي حكاية أسطورية / ملحمية بمعناها الأشمل . ولكون شخصيات ( الأسطورة / الملحمة ) قد لعبت دورا مراوغا في التشكّل الفني / الفكري بهيئتيها ( البشرية والمركبة ) في تقاسم الحدث ، فإن مشكلة البحث تنطلق من تحقق التساؤلات الآتية:
• هل امتلك (جلجامش) وصديقه (أنكيدو) شخصية محددة ، بمظهر محدد وقفتا فيها عند حد معين ؟
• وهل لتناوب صورتي شخصيتيهما الافتراضي أثر جمالي يعادل الأثر الفكري في التشكّل الفني كقيمة جمالية / معرفية ؟
ذلك ما سيقرره استقراء الباحث لصورتيهما التي جاءت على ذكرهما ( الأسطورة / الملحمة ) في أكثر من نص و أكثر من صورة ، لم تجد جوابا متفحصا والتي انطلقت مشكلة البحث فيها ، في تناولها بالدراسة الموسومة :
(( صورة جلجامش – أنكيدو .. قراءة في جدلية خصيتيهما بأعمال الفن العراقي القديم – نماذج مختارة )) .
أهمية البحث والحاجة إليه :
بالنظر لما لملحمة جلجامش – ذات البعد الأسطوري في بناء الحدث وتركيب الشخصية – من أهمية في الفكر العراقي القديم ، كنتاج أدبي شخصه الأثر الفني المنعكس بأعمال الفن المختلفة ، ولما احتلته شخصيتا بطليها ( جلجامش وأنكيدو ) من حضور في رسم أحداثها ، فأن البحث فيها تكمن أهميته بالتركيز على هاتين الشخصيتين المشكلتين لمحور الحدث في ( الأسطورة / الملحمة ) المعروفة، مع بيان ما عليه صورتيهما من تشكيل فني دعا بالباحث إلى تناوله ، لما يسلط الضوء على مثل هذا الأثر الفني في واحدة من مجالات الإبداع في الفن العراقي القديم ، متمثلة بموضوعة أسطورة جلجامش في أبرز شخصياتها المعروفة بـ(جلجامش وأنكيدو ) التي ظهرت بخاصة على طبعات الأختام الاسطوانية بشكل واضح وجلي .
والموضوع ، بما فيه مشكلته على أهمية بحيث يرقى إلى أن يكون مبحوثا بقدر من العمق والدقة في مسعاه العلمي ، موجزا الباحث ذلك بالآتي:
1. إن البحث سيلقي الضوء على ما يشخص صورة (جلجامش) وصديقه (أنكيدو) في طبعات الأختام الاسطوانية التي عرفت في العصرين السومري و الأكدي – بنماذج مختارة .
2. إن البحث سيكشف التناوب الافتراضي لصورة أحدهما في الآخر ، استنادا إلى النص الأسطوري في مواضع تحدد ذلك والتي يراها الباحث مرتكزة في تشكيلها عليها .
3. إن البحث سيكشف عما عرف من صياغة فنية جاءت عليها صورتيهما في طبعات الأختام الخاضعة للبحث .
4. إن مادة البحث بهذا المجال ستفيد في تناولها ببعدها الفني/ الشكلي وبما يتضمنه من أبعاد مضمونية أكثر من جهة ذات علاقة ، كدارسي الفن وتاريخه من جانب ، ودارسي التأريخ الحضاري للعراق القديم في مجال خصب عَرّف بفكر مرحلة وطريقة أداء في التشكيل الفني بمجال طبعات الأختام الأسطوانية بخاصة .
أهداف البحث
1. تعرف البنية التشكيلية لصورة جلجامش وأنكيدو في طبعات الأختام الاسطوانية العراقية القديمة .
2. تعرف تناوب شخصيتيهما كفعل افتراضي حكّمه الحدث ذي الطابع الأسطوري في (الأسطورة / الملحمة ) التي تناولتهما كشخصيتين أساسيتين.
حدود البحث
اقتصر البحث على دراسة صورة جلجامش وأنكيدو ، والتي تجسدت بوضوح في العصرين السومري و الأكدي بما ظهر عليه من تشكيل فني قررته الأسطورة وظهر جليا في طبعات الأختام الاسطوانية بخاصة .
تحديد مصطلحات البحث
• الصورة ( Picture )
جاءت في القرآن الكريم – من قوله تعإلى ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ))(4).
(لغة ) : جمعها صُوَر وصُوْر . الشكل/ كل ما يصور / الصفة .
يقال : صورة الأمر كذا ، أي صفته / النوع / الوجه. ويقال : العقل كذا ، أي هيئته ، و مصور الكائنات : الله .
والتصوير ، جمعها تصاوير : التمثال(5) .
الصورة : تصوير/ صَوَّرَهُ تصويراً ( فتصور ) . و(تصوّرت ) الشيء توهمت . والتصاوير : التماثيل(6) .
( اصطلاحا ) هي الصفة التي يكون عليها الشيء ، كما في قولنا : إن الله خلق آدم على صورته(7) .
وفي الفلسفة : إن الصورة هي جزء من الفكر ، إذ أن للفكر مادة وصورة؛ أما مادته فهي الحدود التي يتألف منها ، وأما صورته فهي العلاقة الموجودة بين هذه الحدود(8) .
الصورة كتعبير ، تتناول :
1. دراسة المصورات : أي دراسة التصويرات المختلفة لموضوع ما عبر العصور ، أو في عصر معين .
2. دراسة الصور الدينية : دراسة الموضوعات والرموز والشخوص المصورة ، والنقوش الزخرفية المتصلة بدين من الأديان ممثلة في الفن(9).
وفي تعبير آخر : هي الصفة التي يكون عليها الشيء ، قد تكون مجسمة من ثلاث أبعاد كالتماثيل ، وقد تكون من بعدين على سطح مستو كالرسم والنقش ، وهي ليست نسخ للواقع ، و أنما هي تعيد صياغة السمات الجوهرية فيه من خلال التخّيل(10) .
إجرائيا : يتفق الباحث مع ما جاءت به (منال العبيدي ) من تعريف للصورة في تعبيرها عن الصفة التي تحملهما الصورة وتجانب الخيال في التعبير، وهو ما قام به البحث الحالي .
• الجدل (( الجدلية )) : ( Dialectic )
ذكر في القرآن الكريم ، من قوله تعإلى : ((وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(11) .
وفي اللغة : جَدَلَ جَدَلاً ، اشتدت خصومته ، وجادَلَه مجادلة وجدالا : ناقشه وخاصمه . والجدل في الأصل ، فن الحوار والمناقشة ، قال ( إفلاطون ) " الجدلي هو الذي يحسن السؤال والجواب " والغرض منه الارتقاء من تصور إلى تصور ، ومن قول إلى قول ، للوصول إلى أعم التصورات وأعلى المبادئ ، وقد اقتبس المحدثون هذا المعنى فأطلقوه على الارتقاء من المدركات الحسية إلى المعاني العقلية ، ومن الحقائق المشخصة إلى الحقائق المجردة ، ومن الأمور الجزئية إلى الأمور الكلية . وعند ( أرسطو) ، الذي قرر قبل أفلاطون ، ما جاء به – من كون العلم يُكشَف بطريقة الحوار (Dialogue ) .. إن الجدل في رأيه قائم على البرهان ، أي الاستنتاج المبني على المقدمات الصحيحة من خلال التحليل المنطقي القائم على ذلك ، وحيث أن موضوع الجدل هو الاستدلال المبني على الآراء الراجحة أو المحتملة(12) .. وهو ما قام عليه البحث من تصور يقود إلى القدرة على الاستدلال الذي رجحه الباحث في احتمال حمل كلتا الشخصيتين – موضوع البحث – لصورة بعضهما النابع من الظن في رأي قصد التحقق منه ليكون يقينيا .
• الشخصية (Personality )
عند القدماء هي التشخّص الفردي أو الفردية ، وعند المحدثين جملة من الخصائص الجسمية والوجدانية ، والنزوعية ، والعقلية التي تحدد هوية الفرد وتميزه عن غيره(13) .
• الهيئة ( Astronomy )
وهي مما له علاقة بمعنى المصطلح ، إذ تجيء بمعنى "التنظيم والعلاقات بين الحجوم والفراغات لخلق صورة متلازمة "(14) .
وهي عند ( البياتي ) تنظيم أجزاء العمل الفني (التمثال ) من حيث العلاقات بين الحجوم والفراغات وما يرتبط بها من إضافات لبيان حالته وكيفيته وشكل صورته(15) .
وإلى ما ينغي معنى المصطلح ، فقد أورد الباحث ما يشير إلى معنى الصورة من خلال الشكل ، إذ أن الشكل : هو المِثْلْ والشبيه والنظير – كما ورد في المعجم الفلسفي ج1- وهذا ما يعزز ما ذهب إليه الباحث من تناوله لصورة الشخصيتين في الأسطورة/ الملحمة .
أما التشكيل : فهو نسبة إلى الشكل الذي هو في الأصل هيئة الشيء وصورته، تقول : شكل الأرض وصورتها ، وفي قول ( ابن سينا ) : " مثل إدراك الشاة لصورة الذئب " بمعنى شكله وهيئته .. وقال أيضا : الشيء كلما بدّل شكله تبدلت فيه الأبعاد المحدودة(16) .
الفصل الثاني
الإطار النظري
الصورة والرمز في الفكر والفن
إن للفن طابعا يحدده سياق العصر بما يحمله من السمات الفكرية والاجتماعية ، وفي تفاعله تفاعلا عضويا مع التطور العام للبشرية ، هذا التطور الذي يظهر في التراث الإنساني وتعدد فنونه وتقنياته ونظمه وأنماطه وتقاليده ، إذ تكشف الدراسة التأريخية للفنون ، أن الفن لغة إنسانية تخاطب العقل والخيال والوجدان ، كما أنه بمثابة الانعكاس المادي لحضارات الشعوب ووعيها وفكرها(17).
ومن إدراك أن المعتقد وكل ما يتعلق به من طقوس وشعائر وممارسات ، وما يدور حوله من أساطير ، على علاقة وثيقة بالفن فيما يشير إليه من رمز يمكن أن نقرأه من خلال ما تكشف عنه الصورة. وبما أن (سوزان لانجر) قد عدت الفن رمزا ، والعمل الفني صورة رمزية ، معتبرة الوظيفة الأساسية للطقوس والفن هي أنها تنقل أو تعبر عن الحالات الانفعالية ، سواء كانت شخصية أو اجتماعية . أي أنها أرادت القول أن الطقوس والأعمال الفنية والأساطير هي صور رمزية ، وظيفتها كأشكال تصويرية أن تخدم أشكال الوجدان التي يصعب صياغتها باللغة(18) .. فقد ربطت لانجر بين الصورة والرمز لما يوضح قيمة الموضوع المرتكز في جانب منه على الواقع الحياتي المدرك ، وفي آخر على ما هو خيالي مجسدا شكلا رمزيا مُبدَعا . وإذ تركز لانجر على الشكل ، فهي ذات نزعة شكلية ، هذا الشكل الذي لا يبدع إلا من خلال رمز مبدع يرتبط بمعنى ويعبر عنه ، باعتقادها أن الفن ليس محاكاة ، وإنما هو عالم قائم بذاته ، وترى فيه تميزا بـ( الغيرية والغرابة )(19) ، وهي الغرابة التي نقرأها في التشكيل الفني للصورة في موضوع البحث والقائمة على الجانب الفكري الذي تصنعه حضارة ما، ليوضح ويؤكد هويتها في مجال معرفي يشكل بأثره نمطا من أنماط التفكير الذي تشكل الصورة حاضنته لما يراد البوح به .
وفي تعرّف الجانب الفكري لحضارة بلاد النهرين أثره البيّن على الفن العراقي القديم ، والذي حمل مواضيع دينية / عقائدية في عموم ما أنتج من أعمال الفن ، والمحكومة بما كانت عليه الحياة الاجتماعية والبيئة التي شكلت الحاضنة لذلك الجانب وما أفرزه من قيم منعكسة بأثرها على المنجز الفني بأبعاده المختلفة. ومن منطلق كون الإبداع الفني في مجالاته المتعددة - ومنها ما قدمه الفنان العراقي القديم في مجال الأختام الاسطوانية وما احتوته موضوعات - يعد وليد الذات المبدعة المتفاعلة مع البيئة المكونة لثقافة المجتمع (20) ، فإن إدراك الأبعاد البيئية والفكرية يشكل أساس تكوين الثقافة العامة للعصر أو الحقبة الزمنية التي أنجز فيها العمل الفني الذي يعد تعبيرا عن ثقافة ذلك العصر(21). وعليه ومن خلال التطورات التي مر بها المجتمع العراقي عبر مراحله التاريخية التي سجلت واقعه، فإن أي طرح للأفكار والإنتاج الفني من قبل الإنسان العراقي القديم سيكون وثيق الصلة بالواقع الاجتماعي ، بل وانعكاسا له ؛ فالفن تطور بما يتلاءم والفترة الزمنية التي طبعته بسماتها ، ومن ذلك ما استقرئ من طبعات الأختام كجزء إبداعي طرح الفنان فيه مواضيع ذات تعبيرات أبرزت حالة من الترتيب الطبقي الذي تميز به المجتمع العراقي القديم ، لأن الفن بطبيعته وتنوعاته يأخذ مكانة في التجربة الإنسانية في مختلف الأزمنة والأمكنة ويكون مرتبطا بسلوك الفرد ، حيث أن صياغة العمل الفني وتشكيله تنعكس على تحديد نوعيته ، سواء كبر العمل أو صغر(22) .
لقد جهد الفنان في العراق القديم على تحميل موضوعاته قيما رمزية تعبيرية عالية بعيدة عن السطحية والتقليد لما هو طبيعي أو تشخيصي محاكٍ للواقع، ومقدما فيها ما يعبر عن سمة الفن سعيا للإيحاء بمغزى الموضوع الذي كان فيه الفنان العراقي القديم حرا في تطويع المظهر الخارجي للأشياء الطبيعية ، وحسب مشيئته ، إمعانا منه في التعبير عما هو أكثر صدقا وثباتا(23) .
ولما كان للمضامين أو المحتويات في أعمال الفن ارتباط بالأمور الدينية الخالصة ، والانطلاق باعتبار الأسطورة شكلا بدائيا للتفكير الديني(24) ، فأن الواقع الحياتي / الدنيوي كان حاضرا في التشخيص برمزية مازج فيها الفنان بين ما هو واقعي وما هو خيالي ، وهو ما تكشف عنه العديد من المصورات – ومنها ما يجد مجاله واضحا في نماذج البحث – والتي ارتبطت برؤى وتصورات خيالية مقدسة لا يمكن لها أن توجد على أرض الواقع ، لتصار إلى الرمز كوسيلة تحضر تمثيلاتها عيانيا ، وهو لاشك إدراك جيد لإمكانات الرموز التعبيرية(25) . وهي تلك الإمكانات التي يحتويها الشكل الفني في اعتباره "شكل معبر وظيفته أن يعطي الأشكال تجسيدا جديدا في نوعيات خالصة ، عندما يحررها من تجسيداتها العادية في الأشياء الفعلية"(26) والتي يمكن استقراؤها بما تتشكل عليه من رؤى ومفاهيم تجد فيه تلك التجسيدات فعلها الملموس في أعمال الفن – ومنها ما طرحه الفنان العراقي القديم على طبعات الأختام التي تناول البحث جانبا منها ، متجسدا في الصورة التي جاءت عليها أشكال جلجامش وأنكيدو لما يوضح ما هي عليه من إمكانات الرمز التعبيرية في تحريرها من تجسداتها العادية إلى ما هو دال على ما تقوم عليه من فعل وبما يحقق في ذلك ضرورة للفعل الاجتماعي الذي يعد الرمز والرمزية بنية ضرورية له ، بل ومن أهم مكوناته(27) .. وإلى ما يأخذ بُعده بما عليه صورة البطلين في الأسطورة ، إذا ما أردنا أن نميز الرمز بطريقة مبسطة في القول بأنه "شيء ما يحل محل ويذكر بشيء آخر"(28) فالتماثيل وما عليه الموضوعات في طبعات الأختام ، وكل عمل من الأعمال تذكّر بوجود فعل أو حدث أو فكرة ، فالرمز يتطلب أركانا رئيسة تحدد ماهيته ، وهي :
1- الدال : وهو الشيء الذي يأخذ مكان الآخر.
2- المدلول عليه : وهو الشيء الذي يحل الدال محله .
3- الدلالة : وهي العلاقة القائمة بين الدال والمدلول عليه .
لذا فالرمز هو شكل يحمل الكثير من المعاني المعبرة ، ارتبط بمجالات الحياة المختلفة ، وهذا ما ظهر بكثرة في نتاجات حضارة العراق القديم والذي عكس طبيعة هذه الحضارة بما عبرت فيه الفنون عن نفسها ، فالإنسان الأول كان قد لجأ إلى الرمز كأداة تعبر عن صراعه مع ذاته وعن علاقته ببقية الموجودات(29) ، وبذلك كانت الرموز جزءا من حياة الإنسان اليومية ، حيث لعبت دورا أساسيا في نفسه لأنها عبرت عن معتقداته وطقوسه ، وحيث ظهرت تعبيرا واضحا في دينه وفنه .
الفصل الثالث
إجراءات البحث
مجتمع البحث :
ارتكز مجتمع البحث على ما احتوته طبعات الأختام الاسطوانية العراقية القديمة من موضوعات تشكلت فيها صورتا البطلين جلجامش و أنكيدو بالتركيز على ما تضمنته من رؤىً في التشكيل الفني في الأسطورة التي عَرّفت بهما.
عينة البحث :
تم انتخاب (5) نماذج وجد فيها الباحث تناوباً في تشكيل الصورة لكل من البطلين – موضوع البحث – وهو ما ستكشف عنه هذه الدراسة إلى ما يؤيد و يؤكد ما ذهب إليه الباحث من قراءة في جدلية شخصيتهما عبر صورتيهما في طبعات الأختام الاسطوانية.
منهج البحث:
بالاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي ، كمنهج متبع في الدراسات التي تتناول أعمال الفن و ما تحمله من تشكيل فني.
وصف الأعمال الفنية وتحليلها
الأنموذج (1)(*)
طبعة ختم تتألف من ثلاثة مجموعات ، تضم الأولى منها – إلى اليمين – أسداً يهاجم ثوراً ممسكاً برجل ٍ عارٍ ، إلا من نطاقٍ بأشرطة متراكبة و عمامة ؛ فيما تضمنت الثانية كائناً مركباً نصفه السفلي من جسد ثور ، و العلوي ممثلاً بجسد إنسان و قد ظهر ممسكاً بكائن آخر ظهر بجسد ثور و رأس إنسان. أما المجموعة الثالثة فقد اشتملت على ذات الشكل المركب في المجموعة الثانية و قد جُعل في حالة مواجهة مع أسدين متقاطعين يعلوهما لوح يتضمن كتابة بحروف مسمارية.
تضمنت موضوعة الطبعة صراعاً بين حيوانات شرسة تمثلت بـ(الأسود)في انقضاضها على حيوانات أليفة تمثلت بـ(الثور) – إلى جهة اليمين من الطبعة ، و أخرى مركبة – إلى جهة اليسار منها .. ذلك الصراع الذي ارتبط بالواقع تارةً لتُجَسََدَ فيه الحيوانات المتصارعة بواقعية في التشكيل الفني و ما جاء عليه من قيمة في التشريح الجسدي ، في تعبيره عن انفعالاتها ، و تارةً أخرى بما جاءت عليه أحداث الصراع في الأسطورة / الملحمة المعرِّفة بشخصيتيها الرئيسيتين (جلجامش و أنكيدو )المرتبطة – أي الأحداث – فيها بـ(اللامرئي/الخيال ) في التجسيد لما يمنح شخصياتها ذلك البعد في التصوّر ، إذ صُوِرّت الأسود في حالة انقضاض على ما هو قائم في الواقع – الثور المرتمي في أحضان الإنسان – و ما هو وراء ذلك و المتخيل بصورة الشكل المركب الذي ظهر في صورته المتناظرة مرتمياَ في أحضان شكل مركب آخر تجسد في قسمه العلوي بصورة إنسان .
وبملاحظة صورة الإنسان – في المجموعة (1) من الطبعة – الممثل لما يشير بهيئته إلى (ملك)، بدلالة التاج على الرأس ، و حيث إن الحدث في موضوع الطبعة يتمثل بشخصيتين أساسيتين في الأسطورة/الملحمة التي تناولتهما و المعرفتين بـ(جلجامش) و صديقه (أنكيدو) ، يمكن الاستدلال على انه – أي الملك – هو جلجامش ملك أوروك و حاميها – بشراً و حيوانات – و المجسدة بتلك الرمزية الظاهرة في احتماء (الثور) به ، البائنة من خلال احتضانه له ، و كراعٍ للقطيع على اختلاف أنواعه و كذلك البشر في مدينته:
(( جلجامش هو راعي
( أوروك ) السور و الحمى ))
[ جلجامش على صورة أنكيدو ] الشكل (1)
إن صورة جلجامش هنا ، في واقعها المعيش (المرئي ) ، يمكن إن تشكل ذات الصورة في (اللامرئي ) الذي تخبرنا به الأسطورة و جسََده الفنان على هيئة مركبة كحامٍ ليس فقط لما هو معيش ، بل و ما هو فوق ذلك ، إذ صور جلجامش مقترباً و مقترناً بصديقه أنكيدو ، في معادلة ٍ أراد بها الفنان بيان القوة البدنية في كليهما و المشيرة برمزية عالية إلى فعل الخير في الدفاع عما هو غير قادر –أي الضعيف – على مواجهة الشر المحدق به (الأسد هنا ) .. و ليأخذ من (أنكيدو) صورته ، ليس بما توحيه من قوة و عزيمة فحسب ، بل و من بنية في التشكيل قالت بها الأسطورة :
((انه مثيل لجلجامش في البنية))
في إشارة إلى لباسه بنيته البدنية ، مع تأكيد يستنبطه الباحث من ذلك بما يماثله كجسدٍ أيضا:
(( ظهر لجلجامش الشبيه بالإله نظيره و مثيله ))
ا لشكل (2)
و من استقراءٍ لنصٍ آخر في الأسطورة/الملحمة، يشير إلى تلك الصورة الافتراضية التي أبدع الفنان العراقي القديم في رسمها لتتماشى و أجواء أحداث الأسطورة، هو ما بُني على تخيلها في طبعها على شخصيتيها الرئيستين من ملامح جمعتهما معا ، وبخاصة في هذا الأنموذج الذي لبس فيه جلجامش بنية أنكيدو شكلا وحركة ووظيفة ، تجسدت في ملامح الوجه لكليهما ، وحركة وبناء الجسد في قسميه العلوي والسفلي ففي القسم العلوي من جسديهما تجد ذات الملامح في الوجه والنظرة والتصوير الجانبي ، وفي تصفيفة اللحية المسترسلة على الصدر ، وذات الحركة لليدين في وظيفة فعل الحماية لما هو اضعف والمجسد بشكل الثور، مع ما يرتديانه من حزام بأشرطة متراكبة يشير في الواقع إلى ارتدائه من قبل الشخصية الأساسية التي نفدت بصورتين ، الأولى ممثلة لجلجامش في الواقع ، والثانية ممثلة له في الخيال . أما في القسم السفلي من جسديهما – الواقعي والمتخيل – فقد نفذت الأرجل بذات الحركة والارتكاز ؛ على انه يمكن أن نلاحظ ذات التشكيل في الحركة على الجسد بقسمه السفلي في صورتي جلجامش (المتخيلة ) وأنكيدو وهما يظهران في وضع حميمي ـ الشكل (2) .
ومما يشير إلى جلجامش – المجسد في صورته الحيوانية المركبة هنا – هو ذكر الأسطورة له بحمله جدائل ( ضفائر ) طويلة ، وكانت بما وصفه اللوح السادس من الملحمة / الاسطورة :
((غسل " جلجامش " شعره الطويل وصقل سلاحه وارسل جدائل شعره على كتفيه))
أما صورة ( أنكيدو ) التي جاءت عليها في أعمال الفن ، والتي قال بها مؤرخو الفن ، فهي التي يشير إليها الشكل المركب الذي ظهر عليه في صورة جسد الثور برأس آدمي ، والموضحة صورته في طبعة الختم هذه بتصويره – في المجموعة الثالثة إلى اليسار من الطبعة – محتميا بصورة جلجامش المركبة ، مع تصويره بذات الشكل في مواجهة أسدين متقاطعين بجسديهما يشير وضعهما الهائج إلى موضوعة الطبعة المعبرة عن الصراع والذي اقفل فيه المثّال التكوين العام بجعل الأسود في حالة انقضاض على حيوانات مسالمة جسدت بشكل الثور.
الأنموذج (2)
تصور طبعة الختم صورة البطلين (جلجامش) و (أنكيدو) في حالة صراعٍ مع (الأسد والثور) ، يتوسطهما حيوان صغير (وعل) في حالة بروك وفزع ويحيط بالطبعة لوح يحوي كتابة بالحروف المسمارية ، يشغل بالأساس جهة واحدة من الطبعة ، وان تناظر على الجانبين منها .
وموضوعة العمل تمثل صراعاً بدا فيه – إلى جهة اليمين من الطبعة – البطل جلجامش ممتطياً أسداً صوّر في حالة هيجان ، وقد أمسك بذيله وإحدى قوائمه الأمامية ، وحيث بدا الأسد في هيجانه رافعاً رأسه إلى الأعلى في حالة زئير . فيما بدا إلى اليسار من الطبعة ، صديقه البطل أنكيدو والذي صوّر بذات الحركة والتشكيل في امتطائه الثور السماوي والإمساك بذيله وإحدى قوائمه الأمامية ، وفي حالة هيجان جعل فيها رافعاً رأسه إلى الأعلى .. فيما انحصر بينهما حيوان صغير ممثل بالوعل ، جعل في حالة بروك وفزع تثيرها حركة كل من الأسد والثور المحيطان به ، وهو هنا في صغره ووضعية حركته مشيراً في رمزيته إلى فعل الاحتماء مما يحيط به من الشر الذي عمد إلى مواجهته كل من البطلين في حماية الحيوانات الضعيفة ، ولتشمل هذه الحماية في مفهومها الأشمل وبرمزية عالية حماية كل من في مدينته ((أوروك)) .
ولأجل تأكيد ما اتحد واتفق عليه البطلان من فعل الحماية لكل ما هو ضعيف ، وتصديهما لمواجهة الشر الممثل بالأسد والثور السماوي ، والذي قالت به الأسطورة بعد خلق غريم لجلجامش في قوته وبطشه ، ولأجل النيل منه ، لتنقلب أحداث الفعل في الأسطورة / الملحمة إلى تحويلهما إلى صديقين حميمين يعملان من أجل خير المدينة والبشر والحيوان .. وبتمعن شكليهما هنا ، تجيء صورة كل منهما في الآخر بذات التشكيل ، بعدما تحول أنكيدو إلى حياة البشر ليتخذ منها الصفة والشكل :
(( انه مثيل لجلجامش في البنية ))
إلى القول :
(( ظهر لجلجامش الشبيه بالإله ، نظيره ومثيله ))
فالمثال هنا ومن مجانبة الواقع في التصور الذي يمليه الحدث إلى أن يكون مدركاً، وحكماً بنص الأسطورة / الملحمة المذكور ، كان قد ألبس أنكيدو صفة البشر – تمثيلاً وبنية – محاولاً التفريق بين صورتي البطلين بأمور بسيطة تجسدت في صورة أنكيدو بجعل خصلات شعره على الجانبين أقل عدداً ، وإلباسه وزرة قصيرة ، فبعد أن اعتاد العيش مع البشر :
(( أضحى إنسانا ولبس اللباس ))
وفي نص آخر من الأسطورة تصف فيه أنكيدو بعدما تحول إلى إنسان :
(( قص الحلاق شعر جسده الكث
ومسح جسمه بالزيت ،
فتحول إلى إنسان
وارتدى رداءً ، فأصبح مقاتلاً
وتقلد أسلحته ليقارع الأسود ))
مع ملاحظة التأكيد على جعل صورتيهما بذلك التناوب الافتراضي متحدة البناء والتمثيل ، وهو ما نلحظه وبخاصة على وجهيهما المتناظرين المتماثلين في الشكل وبتصفيفة الشعر واللحية في كليهما – الشكل (1)
الشكل (1)
وكذلك ما يرتديانه من حزام بأشرطة متراكبة ثلاث ، علاوة على جعلهما بذات التشريح الجسدي ، وكذلك الحركة المتناظرة / المتماثلة في التشكيل ليُحَمِّل المشهد قيمة جمالية بذلك التناظر الزخرفي في تشكيله الفني على مساحة الطبعة ، ومالئاً الفراغات بين صورتيهما باللوح الكتابي ، وبالوعل الصغير إلى ما يكمل المشهد في قيمته المضمونية / التعبيرية – لاحظ تركيب صورتهما الواحدة في الشكل (2) :
الشكل (2)
ومما يمكن ملاحظته في تأييد امتلاك جلجامش لصورة أنكيدو هو ظهوره في طبعة ختم أخرى يظهر وهو يصارع أسداً بحمله على كتفيه ، فيما يظهر في ذات الطبعة ممتطياً ثوراً قد أمسك بذيله وقرنه ، يتوسطهما قرص الشمس المشع المشير إلى الإله الشمس . ففي هذه الصورة التي تذكر للمقارنة ، إفادة بأن جلجامش ذو الخصلات الثلاث من كل جانب على الوجه قد جعل بخصلتين – في الشكل (3) – ليشير بأنه هو نفسه بصورة أنكيدو الذي تحول إلى حياة البشر ولبس لباسهم . ومن وصف الأسطورة له بالكفاءة والجمال ، كانت قد شملت هذه الصفة أنكيدو ليظهر المثّال كلتا الشخصيتان بذات الصورة من الجمال ، اذا ما عرفنا ان جلجامش يمثل رمز الحضارة / المدينة ، فيما يمثل أنكيدو رمز البداوة / البرية ، ليجعل ذلك من تحوله البري إنساناً جميلاً خصته الأسطورة بالنص الآتي:
(( لقد ظهر بطل ند وكفوء للبطل الجميل
أجل ظهر لجلجامش الشبيه بالإله ،
نظيره ومثيله ))
في إشارة إلى امتلاكه لخاصية جمال الصورة التي عليها جلجامش .
على أن ما يمكن تسجيله في طبعة الشكل المقارن لهذا الختم – الشكل (3)
الشكل (3)
تأويل آخر لشكل الثور الذي يجيء بقراءة ثانية على انه يمثل الإلهة (ننسون) إذا ما لا حظنا اكتناز الشكل والحركة الوادعة التي يظهر فيها حاملاً لجلجامش ، وما الإمساك بالذيل والقرن إلا لتثبيت حمله على الظهر ، والعبور به من مخاطر رحلته إلى البحث عن الخلود وما واجهه فيها من صعاب . حتى إن الشكل الأصغر للثور / البقرة – حيث ننسون هي البقرة الوحشية والدة جلجامش ومن الإلهة الحامية له – جعل واقفاً على الماء الذي يرمز إلى الحياة في إشارة إلى نيله الخلود من خلال عمله في حياته . و(ننسون) عرفت بأنها إلهة ذات حكمة ولها القدرة على تفسير الاحلام ؛ فهي التي صاحبت ابنها جلجامش مع مواساته في كثير من الأمور التي واجهته(32) . ومن ظهور الماء في فمها (هنا كبقرة معرّفة بالإلهة ننسون) إشارة إلى منحه الحياة وتجاوز صعابها بوقوفه على مجرى الماء عند قاعدة سطح الطبعة .
وما يراه الباحث هنا في صورة جلجامش التي جاءت مركبة متخذة من شكل الثور في الجسد بظهوره فيها في كثير من طبعات الأختام والتي يقوم عليها البحث الحالي ، هو أن جلجامش بصورته الحيوانية (الثور) إنما هو من جنس أمه (البقرة ننسون) المقدسة التي جاء ذكرها في الأسطورة على لسان أنكيدو :
(( انك الرجل الاوحد ، انت الذي ولدتك امك
ولدتك امك (ننسون)
البقرة الوحشية المقدسة
ورفع (انليل) رأسك عالياً على الناس
وقدر اليك الملوكية على البشر ))
الأنموذج (3)
تمثل طبعة الختم المؤلفة من ثلاثة مجموعات ، مشهداً يصور صراعاً يضم عنصري الأسطورة / الملحمة الرئيسين (جلجامش) و(أنكيدو) والموضح إلى اليمين من الطبعة التي تضم مجموعة (أنكيدو يحيطانه أسدان ينقضان عليه) ، فيما ضمت المجموعة الثانية (جلجامش ممسكاً بثورين يحيطانه). أما المجموعة الثالثة فقد اشتملت على مفردات : الأسد في مواجهة كائن مركب يتوسطهما نسر ناشر جناحيه .
ومن معرفة ما تضمنته الأسطورة / الملحمة من موضوعة الصراع في مشاهدها الممثلة على طبعات الأختام ، فقد مال المثّال إلى تصوير شخصيتي الأسطورة الرئيستين بذات الوضع بإظهارهما في حالة من اللامبالاة أو هي الثقة العالية بالنفس في مواجهة الأخطار ، إذ جعلا في حالة مواجهة إلى الناظر ، من خلال وجهيهما ونظرتيهما معاً ، وهذا حالهما في أغلب تصويرهما ، مع جعل جسديهما في حالة مواجهة مع عناصر الصراع في الأسطورة والممثلة بالأسد والثور السماوي الممثلان كقطبي صراع مع جلجامش وأنكيدو في الملحمة المعرّفة بهما .
تتضح سمات الاشتراك في تمثيل الشخصيتين بالميل إلى جعلهما بذات البناء الجسدي وما عليه من حركة الإمساك بالحيوانات المحيطة بكل منهما ، ورسم ذات الملامح في الوجه لكليهما ، مع تأكيد على بناء الجسد وحركته الموحدة في كليهما وليأخذ في شكل أنكيدو صورته الحيوانية والتي جعله المثّال فيها بذات الانتصاب والحركة التي عليها صورة جلجامش . أما حركة اليدين فهي ذاتها في كليهما ، علاوة على ما يرتديانه من حزام بأشرطة متراكبة ثلاث – الشكل (1) :
الشكل (1)
ولعل ما يقود إلى تأويل الشكل في صورتي البطلين وتناوبهما الافتراضي في لباس أحدهما الآخر هو ما يكمن بالرجوع إلى ابرز عناصر الصراع / المواجهة في الأسطورة وهو شكل الأسد الذي ظهر في الغالب في حالة نزاع بينه وبين جلجامش تحديداً ، ليقود ذلك إلى الإشارة إلى افتراض حَملِهِ هنا صورة أنكيدو المنطلق من اعتبار معايشته الحيوانات في البرية ليأخذ منه صفته الجسمانية، وكذلك الشكلية ، في قوة المجابهة ؛ فجلجامش الذي خصه (أدد) – اله الرعود والعواصف والأمطار – بالبطولة، تذكره الأسطورة بان :
(( ثلثان منه اله ، وثلثه الآخر بشر
وهيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي ))
ليقود ذلك إلى القول في لباسه صورة أنكيدو، استناداً إلى الأسطورة لا إلى الواقع ، وحيث في علمنا أن حمل القرون على الرأس البشري في الفكر العراقي القديم هي من دلالات التأليه والقداسة ما يقودنا إلى ذلك الافتراض كقراءة أولى نحو الرأي إلى تجسيد الشخصية بصورتيها (اللامرئية – الأسطورة) و (المعاشة – الواقعية) .. فجلجامش في هذه الطبعة يكون قد مارس فعلين في آن معا : مجابهته الشر الممثل بالأسود – قطب الصراع الأبرز في الأسطورة – بظهوره بلباس أنكيدو (افتراضاً) ليظهره المثّال في صورة من الخيال ، وليكون هو ذاته بصورته الطبيعية في إظهاره ممسكاً بالثور الذي جعل متناظراً في الشكل ومحتمياً به والتي أوضحتها طبعة الختم في مجموعته (الوسطية) في إشارة له إلى فعل الحماية ، فهو ملك (اوروك) الذي تصفه الأسطورة بالقول :
(( جلجامش هو راعي (اوروك)
السور والحمى ))
وعليه نستنتج أن جلجامش قد مارس فعلين في آن معاً ، هما المجابهة والحماية ، وان جلجامش هو أنكيدو ، ولكن بصورته ! والتي شخصها المثّال على انه (ملك أرضي) بدلالة التاج على رأسه والاقتراب من واقعية تشخيصه ، وكـ(ملك اله) بما يشير اليه نص الأسطورة :
(( ثلثان منه اله ، وثلثه الآخر بشر ))
وبدلالة القرون على الرأس – الشكل (2) :
الشكل (2)
وبملاحظة أن أنكيدو في البدء كان (صديقاً) للحيوانات ، ومنها المتوحشة والمفترسة ، بفعل تعايشه معاً فهو "الرجل المتوحش الذي يحب مجتمع الحيوان"(30) – بحسب وصف بارو له – ليتحول إلى الضد من ذلك حينما رافق جلجامش في تصديه لما هو مفترس منها (الأسد) ، ليشغل هنا وضعاً تناوب فيه الفعل والبنية من صورة جلجامش – البطل والملك والإله – وحيث أوردت الأسطورة في موضع من أحد نصوصها خاطبته فيه البغي بالقول :
(( صرت تحوز على الحكمة يا أنكيدو وأصبحت مثل إله ))
وحيث دلالة القرون في الفكر العراقي القديم إلى التأليه ، والأذن المنتصبة وظهورها طويلة وواسعة عند العراقيين القدماء ككناية عن الفهم والحكمة(31)، ليجعله ذلك ، في موضوعة هذه الطبعة ، حاملاً صفات جلجامش صديقه وخله ورفيق مغامراته ، حتى من صفة التأليه ليتحول من غريم له في القتال إلى غريم بتلك الصفات التي جمعتهما معاً وليشكلا في واقع الأمر شخصيتين اندمجتا في واحدة وهذه تعد من سمات الإبداع الفكري / الفني لدى المثّال العراقي القديم في لعب كلتا الشخصيتين دوراً واحداً/ مشتركاً تناوبتا فيه فعل الحدث والصورة معاً.
الأنموذج (4)
تضم طبقة الختم في تكوينها مجموعتان تؤلفان موضوع العمل ، تتجسد فيهما صورتا البطلين جلجامش و أنكيدو ، وقد ظهر كل منهما ممسكاً بالثور السماوي من ذيله ، و عند القرنين ظهر جلجامش ممسكاً بسكين يحاول فيه طعن الثور عند الرقبة قريباً من قرنيه. فيما امسك أنكيدو بيده الأخرى قرن الثور بقوة .. تتوسطهما شجرة – وهي المعرفة في الأسطورة بشجرة الأرز – ترتكز على شكل يمثل جبلاً ، حيث يشير ذلك إلى مكان الحدث في الأسطورة بذهاب جلجامش و صديقه أنكيدو إلى غابة الأرز لمقاتلة الوحش (خمبابا) فيها ، و حيث تنبت تلك الشجرة في مناطق الجبال (33) و في ذلك ما جاء بنص الأسطورة من مخاطبة جلجامش لأنكيدو:
((عزمت لارتقيََن جبال الأرز
و ادخل الغابة ، مسكن خمبابا
و ساخذ معي فأساً (سكيناً)
لاستعين بها على القتال))
امتلكت صورة جلجامش و أنكيدو في هذه الطبعة ، نفس البناء و التكوين من خلال جعل وجهيهما بذات النظرة الموجهة إلى المتلقي / الناظر، مع ما عليه من ذات الملامح إلا من تصفيفة الشعر ، على الرغم من أن اللحية منفذة بذات الشكل في كليهما . و من السمات المشتركة في التشكيل ظهور حركة يديهما بذات الوضع من خلال الإمساك بذيل الثور و اتجاه الأخرى نحو قرنيه ، مضافاً إلى جلجامش في ذلك مسكه بسكين ، و ليخلق المثّال في ذلك تكويناً زخرفياً / جمالياً على المشهد الذي لعب فيه عنصر التناظر /التماثل قيمة فنية جمالية تحيل المشهد إلى ابعد من صورة الصراع بعنفه المعروف و ليس بسكونه بهذا الشكل ، هذا السكون الذي اُريدَ به سبغ الثقة بالنفس في المنازلة لصالح البطلين – الشكل (1)
الشكل (1)
ومن معرفة تسليط الثور السماوي أساساً على جلجامش لأجل القضاء عليه، بطلب من (عشتار) في مخاطبة (انو) كبير الآلهة بأن يخلقه ليهلك جلجامش الذي أهانها برفض الزواج منها ، حيث تشير الأسطورة إلى ذلك بالقول :
(( اخلق لي يا أبت ثوراً سماوياً ليغلب جلجامش و يهلكه))
فمن تفحص النص يمكن أن نفهم أن الثور السماوي إنما انزل على جلجامش تحديداً لأجل القضاء عليه ، و إن في ظهور صورة أنكيدو إلى جانبه إنما هي في الحقيقة صورة افتراضية لجلجامش المعادل لأنكيدو في قوة بأسه و كذلك في شكله، إذ يرى الباحث فيها بذات الوقت صورة لمركز الحدث الأساس (جلجامش) و المعرّف بها في هذه الطبعة (كملك اله ) ، فيما لم تذكر الأسطورة تأليه أنكيدو.. وحيث من هذا المنطلق أُلبِسَ جلجامش صورة أنكيدو كمثيل ونظير له ، ليس في الجانب المعنوي المعرِّف بقوتهما ، بل يتعداه إلى الشكل ، إذ يقال: هذا شكل هذا ، أي مثله ، و من ذلك يقال : أمر مشكَََََََل ، كما يقال: أمر مشتبه ، أي هذا شابه هذا، و هذا دخل في شكل هذا ، فيقال شكلت الدابة بشكاله ، و ذلك أنه يجمع بين إحدى قوائمه و شكل لها(34). و كذلك من القول في الشكل من أنه الشبه ، أي صورة الشيء المحسوسة أو المتوهمة(35) ، ليحيلنا ذلك إلى تأكيد ما جسده المثّال في (اللامرئي) ليحيله صورة محسوسة ، و هو ما جاءت عليه صورة جلجامش في أكثر من مكان لتعبر عن حبكة الحدث الذي هو بطله الأبرز الذي نسجت الأسطورة حوله ليجيء بهذا التشكيل أو ذاك من التصور وتحويل اللامرئي (المتخيل) كصورة متوهمة إلى واقع محسوس كان قد عبر عنه المثال بصورة أبدعها خياله ليضعنا أمام الحدث بجانبيه (الخيالي والواقعي) والذي منه جاء اعتبار الملحمة من أنها (أسطورة / ملحمة) – كما تم التنويه عن ذلك آنفاً ، في مجانبة الخيال للواقع فيها .
وكذلك كان مما جاء في الأسطورة من وصف لجلجامش بالضفائر (الجدائل) التي تزينه لنجدها ممثلة في شكله الأسطوري ، رغم اشتراكه - في هذه الطبعة - بذات الملامح في الوجه وتصفيف اللحية :
((غسل جلجامش شعره
الكثيف ونظف سلاحه
وأرسل غدائر (جدائل)
شعره على اعطافه (أكتافه)
رمى جانباً لباسه الوسخ
ولف حوله حللاً نظيفة والبزنار لفها
ثم اعتمر تاجه ))
وهو هنا طبعاً بتاج مقرن – الشكل (2) :
كما ان هذه الصورة في الوصف تعطي معنىً ذا قيمة جمالية لطبيعة تشكيل صورته المشابهة لصورة أنكيدو الذي كان يعيش حياة البرية منتقلاً منها إلى حياة المدينة .
الشكل (2)
الأنموذج (5)
يتكون الموضوع في هذا الأنموذج الموضح على طبعة ختم اسطواني من مجموعتين ، تضم الأولى منها – إلى جهة اليمين – البطل جلجامش ممسكاً بثور مرتكز على قائمة خلفية واحدة ، فيما بدت قوائمه الأخرى وقد أمسك بها جلجامش بإحكام، وظهر إلى الخلف منه اله حامٍ بوضع الجلوس رافعاً يديه باتجاه جلجامش بدا وكأنه يباركه لأجل تحقيق النصر له على الثور السماوي ، يعلو الإله الحامي لوح مستطيل الشكل عليه بعض حروف مسمارية والتي بدا أغلبها وقد تهشم من اللوح . وإلى جهة اليسار من الطبعة ، ضمت المجموعة الثانية صورة البطل أنكيدو (بشراً) ممسكاً بنفس الثور مع ظهور اله حامٍ آخر – يحمل نفس صورة ايتانا الراعي – بدا في حالة حماية له باتجاهه نحو البطل أنكيدو صديق جلجامش، في وحدة صراعهما هنا مع الثور السماوي .
من قراءة نص الأسطورة المشير إلى دعوة (عشتار) من (آنو) كبير الآلهة خلق ثور سماوي من أجل أن يهلك جلجامش المعروف بقوة عزيمته كبطل لا يقهر:
((اخلق لي يا أبت ثوراً سماوياً
ليغلب جلجامش ويهلكه))
ومناصرة صديقه أنكيدو له في كل ما واجهه من صعاب ومنها هذه المواجهة التي تدخلت فيها الآلهة بين مناصر لجلجامش وصديقه ، توضحها موضوعة الطبعة هنا، وبين مستجيب لدعوة عشتار في كسر شوكته ، لا لشيء إلا إرضاءً لرغبةٍ في نفسها ، هي غير ما يبتغيه وهو (الملك – الإله) سيد اوروك وحاميها .
فما كان من ذكر الآلهة وتصويرهم في طبعة الختم ، يمكن استقراؤه من موضوعة هذه الطبعة الموجه القول فيها إلى جلجامش – مركز الحدث في الأسطورة – وما واجهه واستنجد به من الآلهة من اجل نصرته ، نقرأ النص :
((في بيت التراب الذي دخلت
يسكن الكاهن الأعلى وخدم المعبد
...
ويسكن (ايتانا) و (سموقان)(36)
وتحكم (ايرش – كيكال) ملكة الأرض السفلى
و (بعلة صيري) كاتبة الأرض السفلى تسجد أمامها
وبيدها رقيم تقرأ لها منه))
وعلى ذكر الكتابة على الختم ، فان كثرتها على سطحه تشير إلى صلوات مطولة(37) .. وهي بظهورها على طبعة الختم هنا تشير إلى صلوات لأجل نصرة جلجامش في مواجهته الثور السماوي .
تتجلى صورة جلجامش على سطح الطبعة– إلى جهة اليمين – واضحة فيما هو عليه من تركيب جسماني ذي عضلات اهتم المثال في تشكيلها ، وسيطرة أحكم بها على الثور السماوي الذي جعل برأس مرفوعة إلى الأعلى تعاني الم تلك السيطرة المحكمة عليه برغم ما عليه من شد للعضلات ومواجهةٍ بدا مستسلماً فيها . وبنظرة فاحصة لأعلى الرأس يمكن ملاحظة ما يشبه التاج المقرن ، إذ إشارة ذلك إلى الالوهية والقداسة لديه ، وبمقارنته مع ما عليه التاج المقرن للإله الحامي خلفه ، والتي يرى فيها الباحث قروناً أكثر منها خصلات شعر حلزونية ، ما يشير إلى منزلة جلجامش هنا (كملك اله) – الشكل (1) .
الشكل (1 )
ومن نظرة فاحصة إلى شكل جلجامش وصديقه أنكيدو ، نجد أن تشكيلهما جاء بذات الصورة من حيث عمل الوجهين بملامح موحدة حتى من خصلات الشعر الحلزونية التي انتهت في رأس جلجامش من الأعلى إلى تاج مقرن ـ الشكل (2)
الشكل (2)
مع ملاحظة تشكيلهما بذات الحركة الممسك كل منهما فيها الثور السماوي وبثقة عالية بالنفس أسبغها المثّال عليهما مع ما أوضحه من التشكيل الذي جاء زخرفيا / جماليا في شكل الثور المتناظر والمتماثل في وضعية حركته .
وما دامت الأسطورة قد ذكرت بان أنكيدو وهو مثيل ونظير لجلجامش في القوة ، يمكن استقراء النص أيضا في إشارته كذلك إلى أن يلبس احدهما شكل الآخر في وحدة صراع جمعتهما معاً تمثلت بمنازلة الثور السماوي . وان الشبه الذي عمد المثال إلى إسباغه على صورتيهما إنما هو إبداع فني وفكري أراد به القول إنهما يمكن أن يكونا بجسد واحد من حيث قيمة وقوة التعبير وتشكيل الجسد وملامح الوجه بخاصة ما يشير إلى كونهما قد تبادلا الصورة بذلك الشبه الذي حاول الباحث استنباطه وتأييده لما جاء بقراءته ، وباغنائه بشكل اكبر – في الأنموذج (4) – الذي تعرض إلى بيان ما للشكل من معنى وعلاقته بالصورة ، لاسيما بعدما تحول أنكيدو إلى حياة البشر وأضحى إنسانا !
الشكل (3)
الفصل الرابع
نتائج واستنتاجات البحث
1. انطوت على شخصية جلجامش تحولات كانت قد حكمتها بيئتان : الأولى تنتمي إلى الواقع (المرئي) وفيها صور على طبعات الأختام (ملكاً أرضياً) معرّفاً ، أما الثانية فينتمي فيها إلى ما هو غير مرئي وكانت قد حكمته بيئة الأسطورة وما تحمله من صور الخيال في تجسيد الشخصية وفيها ظهر بشكل مركب . وبهذا تكون صورته قد عرفت في طبعات الأختام بعدة أشكال منها :
أ- صفته كـ(ملك ارضي) باعتماره التاج والتصوير الواقعي للشخصية .
ب- صفته كـ(ملك اله) باعتماره التاج المقرن، أو بظهور القرون على الرأس كدلالة على تأليهه، مع ما حمله من شكل مركب ليؤكد صفاته المشيرة إلى حمله صفات الملك والإله في آن معاً .
ج- صفته كبطل ينازل الأسود ، وكذلك ما عرف بالثور السماوي الذي خص لمنازلته من أجل قهره وهو البطل الذي لا يقهر ، حيث ظهر بجسد عضلي عار دون اعتماره تاج الحكم في الكثير من النماذج وهو بهذه الصفة كان قد صور واقعياً بجسده الطبيعي ، فيما صور في نماذج أخرى من طبعات الأختام بجسد مركب يجمع بين جسدي الثور والإنسان معاً .
2. وبحكم ما امتلكته أسطورة جلجامش من قيم فكرية تضمنتها الموضوعات التي جسدها المثّال على طبعات الأختام وكان مركز الحدث الأساس فيها هو شخصيتيها الرئيستين جلجامش وأنكيدو فقد اتحد الاثنان – بنيةً وقوة – لمواجهة أحداثها وما فيها من صعاب ، وليجيء تشكيل جسديهما بذات التشريح العضلي والحركة والهيئة لإيضاح وحدتهما كرجلٍ واحد يقف في المواجهة .
3. ومن معرفة أن الأسطورة ترتقي بشخصياتها إلى أبعد مما عليها من هيئة في التشكيل / البنية/ المظهر .. فان جلجامش ومن هذا المنطلق قد ألبس ما كان عليه أنكيدو من شكل مركب عرف به في أعمال الفن ، فيما أحيط الأخير بنفس ما كان عليه جلجامش وذلك بعد انتقاله إلى حياة المدينة ليضحى إنساناً ، وبذلك يكون الاثنان قد تناوبا صورة بعضهما ، وهو إبداع فني كان قد نقله المثّال العراقي القديم ليضع أحداث الفعل في الأسطورة بما حملته من خيال لما هو غير مرئي مجسداً تشكيلاً فنياً جانب الخيال فيه الواقع . فالشخصيات في أسطورة جلجامش جاءت مراوغة ، فهي تارة بلباس بشري (واقع) وأخرى مركبة (خيال) تتقاسم فيه الحدث / النتيجة .
4. في العراق القديم صورت الآلهة على هيئة حيوانات في الغالب ، ومن هنا يمكن أن تأخذ صورة جلجامش ما كان عليه أنكيدو من صور مركبة لتسبغ عليه هذه الصفة .
5. النفاذ إلى الملحمة كأسطورة في جانبها الأكثر تسليطاً على الأحداث ، فهي أسطورة أكثر منها ملحمة ، أو هي (أسطورة / ملحمة) حاول الفنان هنا وليس كاتب نص الأسطورة / الملحمة، إسباغ ملامح على جلجامش تكافئ (شكلاً) ما عليه أنكيدو ككائن مركب .
6. القول بأن جلجامش حمل صورة أنكيدو المشكلة من جسد إنسان في قسمه العلوي مع حمل القرون على الرأس ، وجسد ثور في قسمه الأسفل يتأتى مما قالت به الأسطورة من أن جلجامش هو ابن الإلهة ننسون والموصوفة بـ(البقرة الوحشية) لتشير بذلك إلى انتمائه إلى جنسها – بشكله الحيواني المركب ، وهو من نسج خيال الأسطورة (اللامرئي) ليجسده المثّال على طبعات الأختام شكلاً مرئياً .
7. استند الباحث في قراءته للتناوب الافتراضي لصورتي جلجامش وأنكيدو بلباس احدهما صورة الآخر إلى ما جاءت به الأسطورة من نصوص تشير إلى ذلك الافتراض ، علماً أن أسطورة جلجامش تعد نصاً مفتوحاً يحمل الكثير من التأويل والدراسات . ولعل ما استند إليه الباحث في استنتاجاته هو ما جاء ببعض نصوصها ومنها :
* ((ظهر لجلجامش الشبيه بالإله ، نظيره ومثيله
وان بنيته هي بنية جلجامش))
- أي المقصود أنكيدو
* ((ألم تخلق (ارورو) هذا الثور الوحش الجبار))
* ((انه مثيل لجلجامش في البنية))
* ((هيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي))
* ((ولدتك أمك (ننسون) البقرة الوحشية المقدسة))
* ((أنت الذي ولدتك أمك متفرداً ،
إنها البقرة البرية الراعية ، الإلهة ننسون))
* ((غسل جلجامش شعره الطويل وصقل سلاحه ،
وأرسل جدائل شعره على كتفيه))
- وهذه صورة اشترك فيها مع أنكيدو وفي أكثر من عمل .
* ((لقد ظهر بطل ند وكفوء للبطل الجميل
أجل ظهر لجلجامش الشبيه بالإله ، نظيره ومثيله))
* ((ثلثان منه إله ، وثلثه الآخر بشر
وهيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي))
* ((أصبحت تحوز على الحكمة وصرت مثل اله)) من قول للبغي خاطبت فيه أنكيدو
هذا علاوة على ما أورده الباحث من تحديد للمصطلحات تضمنها البحث في تأييد ما ذهب إليه من افتراضات واستنتاجات قادت إلى هذه الدراسة .
مصادر وهوامش البحث
(1) حسين علوان حسين : الصراع في ملحمة كلكامش – قراءة في جدلية الملحمة ، مطبعة الدار العربية، بابل – 2007 ، ص5 .
(2) طه باقر : ملحمة كلكامش ، سلسلة الكتب الحديثة (78) ، دار الحرية للطباعة ، بغداد – 1975 ، ص8 .
(3) طه باقر : ملحمة كلكامش ، المصدر نفسه ، ص33.
(4) الآية (3) من سورة التغابن .
(5) ... : المنجد في اللغة والإعلام ، دار المشرق للطباعة ، بيروت – 1986 ، ص440 .
(6) الرازي ، محمد بن أبي بكر عبد القادر : مختار الصحاح ، دار الرسالة، الكويت – (د.ت) ، ص373 .
(7) جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، ج1 ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت – 1982 ، ص741.
(8) جميل صليبا : المصدر نفسه ، ص743 .
(9) مجدي وهبة : معجم مصطلحات الأدب ، مكتبة لبنان ، بيروت – 1974 ، ص233 .
(10) العبيدي ، منال خضر عبيس : الرؤية الجمالية للرموز المصورة في الحضارتين السومرية واليمنية القديمة – دراسة مقارنة ، رسالة ماجستير (غير منشورة) ، كلية الفنون الجميلة ، جامعة بابل – 2005، ص18 .
(11) الآية ( 125 ) من سورة النحل
(12) جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، ج1 ، نفس المصدر، ص391-392.
(13) جميل صليبا : المصدر نفسه ، ص692 .
(14) HANKS PATRICK : Encyclopedic World Dictionary ، England Hamlyn Publishing Group ، Ltd. ، 1974 ، p. 629.
(15) البياتي ، عبد الحميد فاضل : هيئة المنحوتات البشرية المدورة في العراق القديم ، اطروحة دكتوراه (غير منشورة) ، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد – 1997 ، ص8 .
(16) جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، ج1 ، ص707 .
(17) الزغابي ، زغابي : الفنون عبر العصور ، ط1 ، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع ، الكويت – 1989 ، ص8 .
(18) راضي حكيم : فلسفة الفن عند سوزان لانجر ، ط1، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد – 1986 ، ص11 .
(19) راضي حكيم : المصدر نفسه ، ص13 .
(20) علي عبد المعطي محمد : مشكلة الإبداع الفني - رؤية جديدة ، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية– (ب.ت) ، ص28 .
(21) هوينغ ، رينيه : الفن تأويله وسبيله ، تر : صلاح برمدا ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق – 1978 ، ص45.
(22) سوريو ، اتيان : الجمالية عبر العصور ، ط1 ، تر: ميشال عاصي ، منشورات عويدات، بيروت – 1974 ، ص43 .
(23) بارو ، اندريه : سومر فنونها وحضارتها ، تر : عيسى سلمان وسليم طه التكريتي ، ص43 .
(24) صبري مسلم حمادي : اثر التراث الشعبي في الرواية العراقية الحديثة، ط1 ، بيروت – 1980 ، ص9 .
(25) حيدر خالد فرمان : الرمز في الفن العراقي المعاصر ، رسالة ماجستير (غير منشورة) ، كلية الفنون الجميلة ، جامعة بغداد – 1988 ، ص46.
(26) راضي حكيم : المصدر نفسه ، ص102 .
(27) عبد الهادي عبد الرحمن : سحر الرمز – مختارات في الرمزية والأسطورة ، ط1 ، دار الحواء للنشر والتوزيع ، اللاذقية ، سوريا – 1994 ، ص133 .
(28) عبد الهادي عبد الرحمن : المصدر نفسه ، ص133.
(29) حبي ، يوسف : الإنسان في أدب وادي الرافدين ، الموسوعة الصغيرة (83) ، منشورات دار الجاحظ، بغداد – 1980 ، ص87 .
(30) بارو ، اندريه : سومر فنونها وحضارتها ، تر : عيسى سلمان وسليم طه التكريتي ، دار الحرية للطباعة ، بغداد – 1978 ، ص358 .
(31) طه باقر : ملحمة كلكامش ، المصدر نفسه ، ص65.
(32) ساكس ، هاري : عظمة بابل ، تر : عامر سليمان إبراهيم ، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر ، 1979 ، ص448 .
(33) من المرجح ان يكون ذكر المكان فيه إشارة إلى جبال لبنان ، حيث تكثر وتنبت فيه شجرة الأرز .
(34) الرازي ، محمد بن أبي بكر عبد القادر : معجم المقاييس في اللغة والإعلام ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت (ب.ت) ، ص533 .
(35) ... : المنجد في اللغة والإعلام ، دار المشرق للطباعة ، بيروت – 1986 ، ص398 .
(36) سموقان : اله الماشية في الفكر العراقي القديم .
(37) زهير صاحب محسن ، وسلمان الخطاط : تاريخ الفن القديم في بلاد وادي الرافدين ، مطبعة التعليم العالي ، بغداد – 1987 ، ص181 .
الملاحق
ثبت بالمعلومات المتعلقة
بنماذج عينة البحث
الأنموذج مادة الختم الطبعة القياس المرحلة التاريخية العائدية
( 1 ) حجر طين (4 × 2.4) سم العصر الأكدي المتحف العراقي
( 2 ) حجر طين (5 × 3.8) سم العصر الأكدي المتحف العراقي
( 3 ) ( ؟ ) طين ( ؟ ) عصر جمدة نصر ( ؟ )
( 4 ) ( ؟ ) طين ( ؟ ) العصر الأكدي المتحف العراقي
( 5 ) بلور صخري طين (5.5 × 2.5) سم العصر الأكدي المتحف العراقي
الدكتور : محمود عجمي جاسم الكلابيي
المصدر الناشر ، جامعة بابل
publication4_10.doc (live.com)
للتحميل اضغط هنا
اضغط على السهم للتحميل pdf |
.
إرسال تعليق